فصل: ذكر ملك المؤيد نيسابور وغيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك شهاب الدين مدينة آجرة:

لما رجع شهاب الدين من خراسان إلى غزنة أقام بها حتى أراح واستراح هو وعساكره، ثم سار إلى بلد الهند، فحاصر مدينة آجرة، وبها ملك من ملوك الهند، فلم يظفر منه بطائل، وكان للهندي زوجة غالبة على أمره، فراسلها شهاب الدين أنه يتزوجها، فأعادت الجواب أنها لا تصلح له، وأن لها ابنة جميلة تزوجه إياها، فأرسل إليها يجيبها إلى التزوج بابنتها، فسقت زوجها سماً فمات وسلمت البلد إليه.
فلما أخذ الصبية فأسلمت، وتزوجها وحماها إلى غزنة، وأجرى عليها الجرايات الوافرة، ووكل بها من علمها القرآن، وتشاغل عنها، فتوفيت والدتها، ثم توفيت هي بعد عشر سنين، ولم يرها ولم يقربها، فبنى لها مشهداً ودفنها فيه، وأهل غزنة يزورون قبرها.
ثم عاد إلى بلد الهند، فذل له صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم، ودوخ ملوكهم، وبلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله من ملوك المسلمين.

.ذكر ظفر الهند على المسلمين:

لما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند وإثخانه في أهلها واستيلائه عليها، اجتمع ملوكهو وتآمروا بينهم، ووبخ بعضهم بعضاً، فاتفق رأيهم على الاجتماع والتعاضد على حربه، فجمعوا عساكرهم وحشدوا، وأقبل إليهم الهنود من كل فج عميق على الصعب والذلول، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، وكان الحاكم على جميع الملوك المجتمعين امرأة هي من أكبر ملوكهم.
فلما سمع باجتماعهم ومسيرهم إليه تقدم هو إليهم في عسكر عظيم من الغورية والخلج والخراسانية وغيرهم، فالتقوا واقتتلوا، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم المسلمون وركبهم الهنود يقتلون ويأسرون، وأثخنوا فيهم، وأصاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده اليسرى، وضربة أخرى على رأسه سقط منها على الأرض، وحجز الليل بين الفريقين، فأحس شهاب الدين جماعة من غلمانه الأتراك في ظلمة الليل وهم يطلبونه في القتلى ويبكون، وقد رجع الهنود إلى ورائهم، وكلمهم وهو على ما به من الجند، فجاؤوا إليه مسرعين، وحملوه على رؤوسهم رجالة يتناوبون حماه، حتى بلغوا مدينة آجرة مع الصباح.
وشاع خبر سلامته في الناس، فجاؤوا إليه يهنئونه من أقطار البلاد، فأول ما عمل أنه أخذ أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم، ويتركهم في مراعيهم، ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فضة، فلم يجبهم إلى ذلك وشدد عليهم في الأنتزاح عن بلده، فعادوا عنه، واجتمعوا وقاتلوه، فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره، وأكثروا القتل في العسكر والرعايا، واسترقوا النساء والأطفال، وعملوا كل عظيمة، وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس.
وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر، فأعلمه الحال، فراسلهم سنجر، يتهددهم، فأمرهم بمفارقة بلاده، فاعتذروا، وبذلوا بذلاً كثيراً ليكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وجمع عسلكره من أطراف البلاد، واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس، وقصدهم ووقع بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وانهزم هو أيضاً، وتبعهم الغز قتلاً وأسراً، فصار قتلى العسكر كالتلال، وقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فأما الأمراء فضربوا أعناقهم، وأما السلطان سنجر، فإن أمراء الغز اجتمعوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وقالوا: نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك، فقد علمنا أنك لا ترد قتالنا، وإنما حملت عليه، فأنت السلطان ونحن العبيد؛ فمضى على ذلك شهران، أو ثلاثة، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان، وطلبها منه بختيار إقطاعاً، فقال السلطان: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد. فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وتاب عن الملك.واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وولوا على نيسابور والياً، فقسط على الناس كثيراً وعصفهم وضربهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر، وقال: أريد ملء هذه ذهباً، فثار عليه العامة وقتلوه ومن معه، فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها نهباً مجحفاً، وجعلوها قاعاً صفصفاً، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها، فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محمد بن يحيى، وأكثر الشعراء في مراثي محمد بن يحيى فممن قال فيه علي بن إبراهيم الكاتب:
مضى الذي كان يجنى الدر من فيه ** يسيل بالفضل والإفضال واديه

مضى ابن يحيىالذي قد كان صوب حياً ** لأبرشهر ومصباحاً لداجيه

خلا خراسان من علم ومن ورع ** لما نعاه إلى الآفاق ناعيه

لما أماتوه مات الدين واأسفاً ** من ذا الذي بعد محي الدين يحييه

ويتعذر وصف ما جرى منهم على تلك البلاد جميعها، ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت.
وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح فقال: إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من ضواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي، وأسلموا واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق والشعبذة، حتى تم أمره، فلما سارت العساكر إليه خذله الغز وأسلموه، وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها؛ وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية، إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم، وطردوهم عن أوطانهم، فجعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه، وأنزلهم بلاده، وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما، وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه، فتقوى بهم زنكي، وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج، فكاتبهم قماج، فمالوا إليه، وخذلوا زنكي عند الحرب، فأخذ زنكي وابنه أسيرين، فقتل قماج ابن زنكي، وجعل يطعم أباه لحمه، ثم قتل الأب أيضاً، وأقطع قماج الغز مواضع، وأباحهم مراعي بلاده.
فلما قام الحسين بن الحسين الغوري بغزنة وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز، ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ، فسار السلطان سنجر إلى بلخ، ففارقها الغوري بعد قتال وانهزم منه، ثم دخل على السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته، فرده إلى غزنة.
وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معهن فأراد صرفهم عن بلاده، فتجمعوا، وانضم إليهم طوائف من الترك، وقدموا عليهم أرسلان بوقا التركي، فجمع قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يوماً كاملاً إلى الليل، فانهزم قماج وعسكره، وأسر هو وابنه بكر، فقتلوهما، واستولوا على نواحي بلخ، وعاثوا فيها وافسدوا بالنهب والقتل والسلب.
وبلغ السلطان سنجر الخبر، فجمع عساكره وسار إليهم، فراسلوه يعتذرون ويتنصلون، فلم يقبل عذرهم، ووصل إليهم مقدمة السلطان، وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول، والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ووصل بعدهم السلطان سنجر، فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به، فلم يقبل سنجر ذلك منهم، وسار إليهم، فلقوه وقاتلوه وصبروا له، ودام قتالهم، فانهزم عسكر سنجر وهو معهم، فتوجهوا إلى بلخ على أقبح صورة،وتبعهم الغز، واقتتلوا ثانية، فانهزم السلطان سنجر أيضاً، ومضى منهزماً إلى مرو في صفر من السنة، فقصد الغز إليها، فلما سمع أمراء الغورية الذين انهزموا عنه وأسلموه، فملأ مخالي خيلهم شعيراً، وحاف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم، فأكلوه ضرورة.
وبلغ الخبر إلى أخيه غياث الدين فكتب إليه يلومه على عجلته وإقدامه وانفذ إليه جيشاً عظيماً.

.ذكر ظفر المسلمين بالهند:

لما سلم شهاب الدين وعاد إلى آجرة، وأتاه المدد من أخيه غياث الدين، عاد الهنود فجددوا سلاحهم، ووفروا جمعهم، وأقاموا عوض من قتل منهم، وسارت ملكتهم وهم معها في عدد يضيق عنه الفضاء، فراسلها شهاب الدين يخدعها بأنه يتزوجها، فلم تجبه إلى ذلك، وقالت: إما الحرب وإما أن تسلم بلاد الهند وتعود إلى غزنة؛ فأجابها إلى العود إلى غزنة، وأنه يستأذن أخاه غياث الدين فعل ذلك مكراً وخديعة.
وكان بين العسكرين نهر، وقد حفظ الهنود المخاضات، فلا يقدر أحد من المسلمين أن يجوزه، وأقاموا ينتظرون ما يكون من جواب غياث الدين بزعمهم، فبينما هم كذلك إذ وصل إنسان هندي إلى شهاب الدين وأعلمه بأنه يعرف مخاضاً قريباً من عسكر الهنود، وطلب أن يحضر جيشاً يعبرهم المخاض، ويكسبون الهنود وهم غارون غافلون، فخاف شهاب الدين أن تكون خديعة ومكراً، فأقام له ضمناء من أهل آجرة والمولتان، فأرسل معه جيشاً كثيفاً، وجعل عليهم الأمير الحسين بن خرميل الغوري، وهو الذي صار بعد صاحب هراة، وكان من الشجاعة والرأي بالمنزلة المشهورة.
فسار الجيش مع الهندي، فعبروا النهر، فلم يشعر الهنود إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم، فاشتغل الموكلون بحفظ المخاضات، فعبر شهاب الدين وباقي العساكر، وأحاطوا بالهنود، وأكثروا القتل فيهم، ونادوا بشعار الإسلام، فلم ينج من الهنود إلا من عجز المسلمون عن قتله وأسره، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأمن معرة فسادهم، والتزموا له بالأموال وسلموا الرهائن وصالحوه، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي كرسي الممالك التي فتحها من الهند، فأرسل عسكراً من الخلج مع محمد بن بختيار، فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبله، حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق.
وقد حدثني صديق لي من التجار بوقعتين تشبهان هاتين الوقعتين المذكورتين وبينهما بعض الخلاف، وقد ذكرناهما سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي يعقوب الكاتب ببغداد، وكان يسكن بالمدرسة النظامية، وحضر متولي المتروكات وختم على الغرفة التي كان يسكنها بالمدرسة، فثار الفقهاء وضربوا المتولي وأخذوا التركة، وهذه عادتهم فيمن يموت بها وليس له وارث، فقبض حاجب الباب على رجلين من الفقهاء وعاقبهما، وحبسهما، فأغلق الفقهاء المدرسة، وألقوا كرسي الوعاظ في الطريق، وصعدوا سطح المدرسة ليلاً، واستغاثوا وتركوا الأدب.
وكان حينئذ مدرسهم الشيخ أبا النجيب، فجاء وألقى نفسه تحت التاج يعتذر، فعفي عنه.
وفيها توفي حام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، وتولى بعده ابنه نجم الدين البي.
وفيها مات أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي الشافعي المحدث، ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الأسعد عبد الرحمن القشيري في شوال، وهو شيخ شيوخ خراسان.
وفيها، في المحرم باض ديك ببغداد بيضة. ثم دخلت:

.سنة ثمان وأربعين وخمسمائة:

.ذكر انهزام سنجر من الغز ونهبهم خراسان وما كان منهم:

في هذه السنة، في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك مسلمون، كانوا بما وراء النهر، فلما ملك الخطا أخرجوهم منه، كما ذكرنا، فقصدوا خراسان وكانوا خلقاً كثيراً، فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها، وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار، والآخر بختيار، والآخر طوطى، والآخر جغر، والآخر محمود، فأراد الأمير قماج وهو مقطع بلخ، إبعادهم، فصانعوه بشيء بذلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحداً، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن بلده، فامتنعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فجاء إليه العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين يديه هاربين لما دخل قلوبهم من خوفهم والرعب منهم؛ فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه، وذلك في جمادى الأولى من السنة، وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها، منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي، والقاضي علي بن مسعود وغيرهما من الأئمة والعلماء.
ولما خرج سنجر من مرو قصد اندرابة وأخذه الغز أسيراً، وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته، وقاموا بين يديه، وبذلوا له الطاعة، ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة، فمنعهم أهلها،وقاتلوهم قتالاً بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم، ثم إنهم عجزوا، فاستسلموا إليهم، فنهبوها أقبح من النهب الأول ولم يتركوا بها شيئاً.
وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك ابن نظام الملك، ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه؛ فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، فوصل إلى نيسابور تاسع عشر من جمادى الآخرة من السنة، فاجتمعوا عليه، وخطبوا له بالسلطنة، وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز، فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم.
ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه ساروا إلى مرو يطلبون الغز، فبرز الغز إليهم، فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على أدبارهم، وقصدوا نيسابور، وتبعهم الغز، فمروا بطوس، وهي معدن العلماء والزهاد فنهبوها، وسبوا نسائها، وقتلوا رجالها، وخربوا مساجدها ومساكن أهلها، ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضي، ومواضع أخر لها اسوار.
وممن قتل من أعيان أهلها محمد المارشكي، ونقيب العلويين بها علي الموسوي، وخطيبها إسماعيل بن المحسن، وشيخ شيوخها محمد بن محمد، وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين، وساروا منها إلى نيسابور، فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين، ولم يجدوا دونها مانعاً ولا مدافعاً، فنهبوها نهباً ذريعاً، وقتلوا أهلها، فأكثروا حتى ظنوا أنهم لم يبقوا بها أحداً، حتى إنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان، وسبوا نسائها وأطفالها، وأخذوا أموالهم، وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض، واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي وتحصنوا به، فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور عن منعهم، فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكانوا يطلبون من الرجل المال، فإذا أعطاهم الرجل ماله قتلوه، وقتلوا كثيراً من أئمة العلماء والصالحين، منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله، كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه، ورثاه جماعة من العلماء، منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال:
ياسافكاً دم عالم متبحر ** قد طار أقصى في الممالك صيته

بالله قل يا ظلوم ولا تخف ** من كان يحيي الدين كيف تميته

ومنهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف، وأحمد بن الحسين الكاتب سبط القشيري، وأبو البركات الفراوي، والإمام علي الصباغ المتكلم، وأحمد بن محمد بن حامد، وعبد الهاب الملقاباذي، والقاضي صاعد بن عبد الملك بن صاعد، والحسن بن عبد الحميد الرازي وخلق كثير من الأئمة والزهاد والصالحين، واحرقوا ما بها من خزائن الكتب ولم يسلم إلا بعضها.وحصروا شارستان، وهي منيعة، فأحاطوا بها، وقاتلهم أهلها من فوق سورها، وقصدوا جوين فنهبوها، وقاتلهم أهل بحراباذ من أعمال جوين، وبذلوا نفوسهم لله تعالى، وحموا بيضتهم والباقي أتى النهب والقتل عليه؛ ثم قصدوا أسفرايين فنهبوها وخربوها، وقتلوا في أهلها فأكثروا.
وممن قتل عبد الرشيد الأشعثي، وكان من أعيان دولة السلطان، فتركها وأتى على الاشتغال بالعلم وطلب الآخرة؛ وأبو الحسن الفندروجي، وكان من ذوي الفضائل لا سيما في علم الأدب.
ولما فرغ الغز من جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنهبوا ما بقي فيها بعد النهب الأول، وكان قد لحق بشهرستان كثير من أهلها، فحصرهم الغز واستولوا عليها، ونهبوا ما كان فيها لأهلها ولأهل نيسابور، ونهبوا الحرم والأطفال، وفعلوا ما لم يفعله الكفار مع المسلمين، وكان العيارون أيضاً ينهبون نيسابور أشد من نهب الغز ويفعلون أقبح من فعلهم.
ثم إن أمر الملك سليمان شاه ضعف، وكان قبيح السيرة سيء التدبير، وإن وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك توفي في شوال سنة ثمان وأربعين فضعف أمره، واستوزر سليمان شاه بعده ابنه نظم الملك أبا علي الحسن بن طاهر وانحل أمر دولته بالكلية، ففارق خراسان في صفر سنة تسع وأربعين وعاد إلى جرجان، فاجتمع الأمراء وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر، وخطبوا له على منابر خراسان، واستدعوه إليهم، فملكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وساروا معه إلى الغز وهم يحاصرون هراة، وجرت بينهم حروب كان الظفر في أكثرها للغز، ورحلوا في جمادى الأولى من سنة خمسين وخمسمائة من على هراة إلى مرو وعاودوا المصادرة لأهلها.
وسار خاقان محمود بن محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد، على ما نذكره، وراسل الغز في الصلح، فاصطلحوا في رجب من سنة خمسين وخمسمائة، هدنة على دخن، وسيرد باقي أخبارهم سنة اثنتين وخمسين.

.ذكر ملك المؤيد نيسابور وغيرها:

كان للسلطان سنجر مملوك اسمه أي أبه، ولقبه المؤيد، فلما كانت هذه الفتنة تقدم، وعلا شأنه، وأطاعه كثير من الأمراء، واستولى على نييسابور وطوس ونسا وأبيورد وشهرستان والدامغان، وأزاح الغز عن الجميع، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأحسن السيرة، وعدل في الرعية، واستمال الناس، ووفر الخراج على أهله، وبالغ في مراعاة أرباب البيوت، فاستقرت البلاد له، ودانت له الرعية لحسن سيرته، وعظم شأنه وكثرت جموعه، فراسله خاقان محمود بن محمد في تسليم البلاد والحضور عنده، فامتنع، وترددت الرسل بينهم، حتى استقر على المؤيد مال يحمله إلى الملك محمود، فكف عنه محمود، وأقام المؤيد بالبلاد هو والملك محمود.

.ذكر ملك إينانج الري:

كان إينانج أحد مماليك السلطان سنجر، فلما كان من فتنة الغز، ما ذكرناه هرب من خراسان، ووصل إلى الري، فاستولى عليها وأقام بها، فأرسل إلى السلطان محمد شاه بن محمود صاحب همذان، وأصفهان، وغيرهما، خدمه وهداه هدايا فأرضاه بها، وأظهر له الطاعة، وبقي بها إلى أن مات الملك محمود، فاستولى عليها وعلى عدة بلاد تجاور الري، فملكها، فعظم أمره وعلا شأنه وصارت عساكره عشرة آلاف فارس.
فلما ملك سليمان شاه همذان، على ما نذكره، حضر عنده، وأطاعه لأنسه به. كان أيام مقام سليمان شاه بخراسان، فتقوى أمره بذلك.

.ذكر قتل ابن السلار وزير الظافر ووزارة عباس:

في هذه السنة، وفي المحرم، قتل العادل بن السلار وزير الظافر بالله، قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى الصنهاجي، وأشار عليه بذلك الأمير أسامة بن منقذ، ووافق عليه الخليفة الظافر بالله، فأمر ولده نصراً، فدخل على العادل وهو عند جدته أم عباس، فقتله وولي الوزارة بعده ربيبه عباس.
وكان عباس قد قدم من المغرب، كما ذكرناه، إلى مصر، وتعلم الخياطة، وكان خياطاً حسناً، فلما تزوج ابن السلار بأمه أحبه، وأحسن تربيته، فجازاه بأن قتله وولي بعده.
وكانت الوزارة في مصر لمن غلب، والخلفاء من وراء الحجاب، والوزراء كالمتملكين، وقل أن وليها أحد بعد الأفضل إلا بحرب وقتل وشاكل ذلك، فلذلك ذكرناهم في تراجم مفردة، والله أعلم.

.ذكر الحرب بين العرب وعساكر عبد المؤمن:

في هذه السنة، في صفر، كانت الحرب بين عسكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف.
وسبب ذلك أن العرب، وهم بنو هلال والأبتح وعدي ورياح وزغب، وغيرهم من العرب، لما ملك عبد المؤمن بلاد حماد اجتمعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من المغرب، وليس الرأي إلا إلقاء الجد معه، وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن.
وتحالفوا على التعاون والتضافر، وأن لا يخون بعضهم بعضاً، وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال ليقاتلوا قتال الحريم.
واتصل الخبر بالملك رجار الفرنجي، صاحب صقلية، فأرسل إلى أمراء العرب، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى ابن حسن وغيرهم، يحثهم على لقاء عبد المؤمن ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على شرط أن يرسلوا إليه الرهائن؛ فشكروه وقالوا: ما بنا حاجة إلى نجدته ولا نستعين بغير المسلمين.
وساروا في عدد لا يحصى، وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب، فلما بلغه خبرهم جهز جيشاً من الموحدين يزيد على ثلاثين ألف فارس، واستعمل عليهم عبد الله بن عمر الهنتاني، وسعد الله بن يحيى، وكان العرب أضعافهم، فاستجرهم الموحدون وتبعهم العرب إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف، بين جبال، فحمل عليهم جيش عبد المؤمن فجاءه والعرب على غير أهبة، والتقى الجمعان، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، فانجلت المعركة عن انهزام العرب ونصرة الموحدين.
وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم، فأخذ الموحدون جميع ذلك، وعاد الجيش إلى عبد المؤمن بجميعه، فقسم جميع الأموال على عسكره، وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط، وكل بهم من الخدم الخصيان من يخدمهم ويقوم بحوائجهم، وأمر بصيانتهم، فلما وصلوا معه إلى مراكش أنزلهم في المساكن الفسيحة، وأجرى لهم النفقات الواسعة، وأمر عبد المؤمن ابنه محمداً أن يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نسائهم تحت الحفظ والصيانة، وأمرهم أن يحضروا ليسلم إليهم أبوه ذلك جميعه، وأنه قد بذل لهم الأمان والكرامة.
فلما وصل كتاب محمد إلى العرب سارعوا إلى المسير إلى مراكش، فلما وصلوا إليها أعطاهم عبد المؤمن نسائهم وأولادهم وأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، فاسترق قلوبهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حفياً، واستعان بهم على ولاية أبنه محمد للعهد، على ما نذكره سنة إحدى وخمسين.

.ذكر ملك الفرنج مدينة بونة وموت رجار وملك ابنه غليالم:

في هذه السنة سار أسطول رجار ملك الفرنج بصقلية إلى مدينة بونة، وكان المقدم عليهم فتاه فيلب المهدوي فحصرها واستعان بالعرب عليها، فأخذها في رجب، وسبى أهلها، وملك ما فيها، غير أنه أغضى عن جماعة من العلماء والصالحين، حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى، فأقام بها عشرة أيام، وعاد إلى المهدية وبعض الأسرى معه، وعاد إلى صقلية فقبض رجار عليه لما اعتمده من الرفق بالمسلمين في بونة.
وكان فيلب، يقال أنه وجميع فتيانه مسلمون، يكتمونه ذلك، وشهدوا عليه أنه لا يصوم مع الملك، وأنه مسلم، فجمع رجار الأساقفة والقسوس والفرسان، فحكموا بأن يحرق، فأحرق في رمضان، وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية. ولم يمهل الله رجار بعده إلا يسيراً حتى مات في العشر الأول من ذي الحجة من السنة، وكان مرضه الخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وكان ملكه نحو ستين سنة؛ ولما مات ملك بعده ابنه غليالم، وكان فاسد التدبير سيء التصوير، فاستوزر مايو البرصاني، فأساء التدبير، فاختلفت عليه حصون من جزيرة صقلية، وبلاد فلورية، وتعدى الأمر إلى إفريقية على ما نذكره.

.ذكر وفاة بهرام شاه صاحب غزنة:

في هذه السنة، في رجب، توفي السلطان بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم أبن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بها، وقام بل ملك بعده ولد نظام الدين خسرو شاه، وكانت ولاية بهرام شاه ستا وثلاثين سنة، وكان عادلاً، حسن السيرة، جميل الطريقة، محباً للعلماء، مكرماً لهم، باذلاً لهم الأموال الكثيرة، جامعاً للكتب تقرأ بين يديه، ويفهم مضمونها؛ ولما مات ملك ولده خسروشاه.